أخبار عاجلة
الرئيسية / المقالات / إندحار حقوق الإنسان / عبيد اميجن

إندحار حقوق الإنسان / عبيد اميجن

على مدى عقود عاشت الكاتبة الروائية الآمريكية هاربر لي حياة عزلة وهدوء تناسب إلى حد كبير خجل امرأة تنـشـد اعتزال سياسات التفرقة

العنصرية والطبقية المتفشية بين العائلات والجيران في جنوب الولايات المتحدة، لكن الآنسة لي دفنت مشاهداتها ضمن رواية ستصبح علامة فارقة في الأدب الأمريكي، تحت عنوان طريف بعض الشيء ” أن تقتل عصفوراً محاكياً/ To Kill a Mockingbird[O1] “. نشرت الرواية عام 1960 بالتزامن مع حصول موريتانيا على استقلالها عن الإستعمار الفرنسـي وهو التاريخ ذاته الذي واكب فورة حركة الحقوق المدنية على ضفاف الأطلنطي الغربية. يمكنني تلخيص موضوع الرواية في النصيحة التي قدمها المحامي أتيكوس فينتش لابنته الصغيرة سكاوت “إنك لن تفهمي شخصا حتى تأخذي الأمور من وجهة نظره .. حين ترتدين جلده وتعيشين به”. يوم الجمعة الماضي؛ وصلنـي خبـر حزين ضمنه المصدر وفاة الروائية هـاربر لي بهدوء في مسقط رأسها بمونروفيل بولاية ألاباما وكانت الروائية لحظة وفاتها محاطة بأفراد عائلتها، أما ملايين القراء فقد كان شعـورهم بالخسارة أعظم و أوفر. أفنت الآنسة هاربر لي عمرها البالغ 89 عاما فـي ممارسـة القناعـة والثبات على القيم فأنتجت نماذج إنسانية تمثلها مثابرة والـد سكاوت وجيم الذي يخاطر بكل ما لديه كي يدافع عن معتقداته. بغض النظر عن الجغرافيا والمعتقدات الدينيـة فإن بعض الظواهر الاجتماعية في الولايات المتحدة كالإشكال اللونـي قد تنسحب على تراجيديا الواقع الاجتماعي بموريتانيا؛ و”إذا لم تكن تعلم أين تذهب بهمومك، فكل الطرق تؤدي إلى هناك” كما يقول الآمريكان أعرف أيضا، أن البعض سيوغل في انتقاد استعمالنا لهذه السياقات الإستهلالية وقد يصرف نظره عما بقي من المقال؛ لكن خصوصية الفرز الشرائحي وتبدلات المواقع الاجتماعية والتصرفات السلبية في بعض الأحيان لـ”زعماء” منحدرون من أوساط المهمشين يستوجب التأكيد على “أن التفاحة المعطوبة قد تفسد كامل الصندوق” لذا لا يجوز اغفال ذكـر الأمثلة النضالية الناصعة وتحريض الناس على اتخاذها نموذجا، وليس غريبا أو مفاجئا لنا أمام درجـات تنسيق المواقف والمشاريـع السياسيـة ندرة من يحرض “البيظاني” على ارتداء “الجلد” الآخر كي يفهم معاناة صاحبه “السوداني” ومستوى “القناعات” المتجددة والمتحولة لديه. بكلام آخر، هل كشف الميراث الإستعبادي يرتبط بالأساس الحقوقـي أو بالإستغلال السياسي؟ أم هو موكول الى الله؟ قد يَرُدُ البعض هنا، ما العيب في خلطهما ما دامت المهمة تتضمن الدفاع أو الترافع عن قضية العبودية مثلا أو قضايا معينة كمنع التمييز والعمل من أجل المساواة وكل ذلك يدخل في صميم دينامكية الديمقراطية، كما سيعلل آخر التداخل بين الوجهتين بغياب الشرط الموضوعي لخطاب حقوق الإنسان ولنشر ثقافة حقوق الإنسان داخل مجتمع تقليدي ومحافظ؛ بالنسبة لغير هؤلاء فقد تحولت تلك الثنائية إلى معيق حقيقي لتقدم النضالات المدنية في موريتانيا وبصفة خاصة معضلة لحراطين. في ظروف معينة عانى لحراطين من سطوة المواقـع المعيشية القاسية، فخلال عملية التحول، من قرون اتسمت بالعبودية والقنانة، الى واقع التهميش والحرمان حاليا بزغ، في تقديري، مفهوم شريحة لحراطين بالرغم من أن القاسم المشترك بين الأوساط والعائلات الحرطانيـة يكمن في ماضي مرير قوامه اللون والعبودية وبقاياها كما أسلفنا. لذلك يقاوم شباب هذه الشريحة سياسات الأنظمة القاضية بإعادة التأهيل ذلك أن البعض يدرك أن الحكومات تتعامل مع أفراد وعائلات الشريحة ككائنات مريضة يجري العمل من أجل السيطرة عليها وتوجيه حراكها الإجتماعي الذي يعبر عادة عن آلامها ومظالمها بصورة حدية و واضحة، لقد بوأت تلك النضالات الشبابيـة لحراطين من أن تحتل مكانة ستمكننا من أن نصفها بـ”الشريحة الغاضبة”. إن هذا الغضب المشروع يجـرى العمل دائما على إجهاضه من قبل الساسة المنحدرون من الشريحة ذاتها، ـمع الأسف ـ أو عبر وسطاء من الطبقات الأخرى ممن له مصالحه وتحيزاته، ومن الهين على المتتبع النبش في سجلات الكفاح الحراطيني ليكشف حجم الإساءات الى القضية. دعونا نعترف بأن غياب طول النفس كان كفـيلا بحسم المعركة خلال محاكمات لَكوارَبْ لصالح تحريض المؤسسة العسكرية، و ينطبق الأمر ذاته على محاكمات ما سمي بمحرقة الكتب، فكيف تتواصل المناشدات والمطالبات من أجل إطلاق سراح معتقل ما الى نظام يراد تغييره وإسقاطه وإحالته للقضاء على جرائمه !!. إن هذا الوضـع السياسي والاجتماعي المعقد، والمتشابك هو المسؤول أيضا عن السيطرة علـى على أصحاب الأقدام الحافية من العمال اللذين باشروا انتفاضتهم ضد كبار التجار والمتنفذين من رجال الأعمال، انطلاقا من ميناء أنواكشوط، ومن نتائـج ذلك استيراد عمالة افريقية رخيصة ومباشرة الإستغناء عن هؤلاء بشكل متدرج!!. فلماذا؟ إنه وبدون الاستطراد بالدخول الى التفاصيـل العديـدة التي قد تخرجنا عن صلب قراءتنا المحددة، والمتواضعـة سنختم الامثلة بميثاق الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للحراطيـن الذي يخشـى أن يدخل في سبات عميق بعدما استبشر الناس بكونه يعكس مستوى الوعي الجماعاتي والتغييري، ببساطـة عندما ارادت مشيئة التملك والتسيس استبعاد الروح الحقوقية للميثاق والأعراف الحرطانية في تدبير الجماعة، إنقض “الساسة” على كل القيم الإجماعية وطفقت السلطة والطبقات السائدة تتفرج على صراع الزعامات الحراطينية من جديـد !!. لماذا؟ الأمر نفسه يتكرر في فهم التنظيمات الحراطينية للعلاقة بين ما هو سياسي وما هو حقوق يجب أن يظفر بها الضحايا..، أدركـ حجم التحديات التي اعترضت تجربـة “الحزب”، “النقابة” و”المنظمـة” ولعل جانبا من هذا النجاح يتعلق بمكانة “نجدة العبيد” كمنظمة تحوز الآن على وضع العضو في المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة وكمؤسسة تصدر التقارير الأدبية والمالية تبـاعا، لكن العوامل السياسية والذاتية هي التي قطعت حبال الوصـل بين “الحزب” و”النقابة”. إن نقد الذات دائما أصعب ويحتاج إلى شجاعة الإعتراف بالأخطاء وشجاعة التراجع عنها، وأنا لست أفضل من ينتقـد المواقف غيـر أنه لابـد أن يبدأ أحدهم، وها أنا بدأت، فقد أكون ساهمت في أن أزيح عقبـة كبرى حدثني بشأنها الأصدقاء وهمس إلي بها النشطاء وتداولتها المجالس، فلم تعد سرا. وبمعني من المعاني، فإن “الغضب” وحده لا يكفي إذ لا بد أن نتملك عقلا جديدا يمكننا من أن ننظر للمحيط والأشياء والبشر من حولنا وفق مقاربة منفتحـة و”أصيلة”، هذه نقطة. والنقطة ألأخرى ؛ أن الظلم المسلط تاريخيا على لحراطين هو الذي إنعكس على الخطاب السياسي الذي كان منذ البداية يستند على رفع المظلومية التاريخية قبل أن يتسرب هذا الخطاب الى رجالات السياسـة يجدر بنا التنبيه إلى ان هذه الفئة ليس اختصاصها حمل القضايا وإنما تجسيد المشاريع السياسية والإنمائية لفائدة الشعب والبلد وقد تمتطي في سبيل ذلك ايديلوجية ما، اما لغة حقوق الإنسان فهي تتأسس على قواعد تشبه المعادلات الرياضية التي لا تقبل المساومة والمقاولة والتفاهمات المحينة، فالأخيرة مجالها السياسة الحزبية والصراع بين الساسـة على الغنائم والمناصب أما الضحايا فهـم يحتاجون رجلا في مقام المحامي أتيكوس فينتش. على الرغم من التباين الظاهري يمكن أن نعـد الكثير من العيوب التي يتقاضى عنها المتشبثون بالمنهج التقليدي في التعامـل مع الظواهر المعاشة “الحَقْ ما ينكالْ والكذبْ أحْرامْ”، يقول المثـل. لَحْرأم الذي غيب عن نوازل إختطاف العبيـد وقهـر عائلات نانْمًة، يجعله منكرو الَرق والمظالم معزوفة هـي الأكثر رجحانا خلال الرقص على ايقاع الإتهام بالخروج على عتبة حقوق الإنسان “المقدسة” والذوبان في سجالات السياسة “المدنسة”، طبعا مع فارق التوقيت وكل هذه الاعتبارات توجب الاتجاه الى الفصل بين الجانبين. كمثال تشكل التوصيفات النمطية ذات الشحنة الاحتقارية والبعـد العنصري تحديا كبيرا يتوجب على المساهم في اشاعـة الفكر الديمقراطي من داخل الحركات الحقوقية البت فيه باطنيا وظاهريا؛ كقولهم “أجماعتْ لَعْبيدْ” وما تضمره من كيـد هوياتي وانتماء إجتماعي يتمنع على الحسم، وقـديما كانت العرب تلصق الزنوجـة بجماعة السود أساسا لذلك أورد ابو عثمان الجاحظ في كتابه “فخر السودان على البيضان” هذا الجزء وفيـه يقول: “وقد قالت الزنج للعرب : من جهلكم أنكم رأيتمونا لكم أكفاء في الجاهلية في نسائكم فلما جاء عدل الإسلام رأيتم ذلك فاسدا وما بنا الرغبة عنكم. مع أن البادية منا ملأى ممن قد تزوج ورأس وساد ومنع الدمار وكنفكم من العدو[O2] “. وكذلك كثير من قادة لحراطيـن ليست لديهم الرغبة عن خصومهم البيظان، فيما يتوسدهم هاجس الإنتماء للقبائل الإفريقية باعتبارها تشكل ثقافة مغايرة وذات نظام طبقي شديـد الإنغلاق فماذا لو كشف الواحد من هؤلاء عن جذور عائلته “الصونغية” البعيدة افتراضا حيث كان أسلافه حدادين يسلط عليهم النبذ؟ ماذا لو عاد لتلك الجذور فوجد نفسه بعـد أن كان عبدا أصبح حدادا؟؟، طبعا في منظور التوصيفات السائدة، أحيانا كثيـرة تتردد على المسامع بأن أبناء العبيد والعبيد السابقون يرون انهم إن لم يستفيدوا من قابلية القفز الاجتماعـي داخل الأوساط البيظانيـة، فإنهم مقبلون على إحداث مجتمعهم البديل. هذه المقاربة تعد بمثابة اختيار ديمقراطي نسبيا، ولا أحد يستطيـع أن يصوب اختيارات الشعوب. من الجيـد أن يتخلـى المدافع عن قيم حقوق الإنسان عن المصطلحات الاحتقارية وتوصيفات الشوارع الخلفيـة كلَكْور والزنوج والبربر، شخصيا أعتقد أن الخلاصـة التي اقتنع بموجبها الآمريكان بالتخلي عن هذه التوصيفات تنطبق علينا، وبالتالي يوجد فقط هالبولار وسوننكي وبيظان وغير ذلك على وجه التحديد. في تقديري، أن الذاتية واستحضار مكانة الزعيم تتحول هذه الآونة إلى حالة إدمان أو “هلوسة” بحيث ينفصل صاحبها عن الواقع والمجتمع والضحايا ثم يتماهى مع ذاته فيعبدها ثم يبدأ في النظر إلى رفاقه كتلاميذ أو أتْباع. في هذه الحـالة يصير “الزعيم” بوعي أو بغير وعي ضمن قائمة المتواطئين ضد الحرية والقيم الديمقراطية فهـو هنا، خير مـن يتآمر على أفراد شعبه المتطلـع إلى عالـم افضل تكون قوامته المساواة والعدالة التي افتقدها أبناء لخْدَمْ قرونا على أيادي أولادْ لخْيامْ لكباراتْ. فهـل يمكن أن يكون النضال الحقوقي رافعة إلى التَاشْياخيتْ؟ أجزم بأن المناضل قادر على أن يصبـح أيقونة لكن لـن يقتطـع ثمـن رفضـه رياء. هل كل هؤلاء المناضلون مخطئون ونحن الصواب؟ الجواب أنه على صعيـد الخطاب والوعي –بين عوامل أخرى- فقـد قطع هؤلاء أشواطا هائلة، فـي التعريف بالحقوق والحريات الشخصية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهنا أعيد صياغة السؤال فمنذ منتصف سبعينيات القرن الماضـي وإلى اليوم، والجهود المقام بها لم تؤثر ايجابا على أزمات التخلف والفقر والأمية والبطالة كما لم تساعد في تحسن ظروف أسر لحراطين المعيشية. لماذا؟ يقول الفرنسيون في أمثالهم السائرة أن “الذي يحاول تبرير الخطأ قد يتهم[O3] “، غير أن مقولات الضرورة تؤكـد على أنه علـى صعيد الممارسة والنشاط ينقصنا أن نجتهد للانتساب للفكرة الديمقراطية، بحيث نقبل الإختلاف ما دمنا نرفض المراجعة وأن نستوعب ان الصلاة في معاطن الإبل لا تجوز. \\\الهوامش [O1]ترجمت الى اللغة العربية داليا الشيال تحت عنوان “أن تقتل طائرا بريئا” [O2]الرسالة الرابعة لأبو عثمان الجاحظ: كتاب فخر السودان على البيضان [O3]No s’excuse s’accuse

شاهد أيضاً

غزواني رجل دولة فلا داعي للقلق ../ الشيخ المهدي النجاشي – صحفي …

وأنتم تسيلون حبر أقلامكم وطقطقات لوحات هواتفكم بكثير من العنتريات احيانا والمزايدات على الموقف الموريتاني …